عدنان بن عبد الله القطان

4 جمادى الآخرة 1443 هـ – 7 يناير 2022 م

———————————————————————-

الحمد لله حكم بالفناء على هذه الدار، وأخبر أن الآخرة هي دار القرار، وهدم بالموت مشيد الأعمار، نحمده تعالى على نعمه الغزار، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، حذر من الركون إلى هذه الدار، وأمر بالاستعداد لدار القرار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وراقبوه جل وعلا، وأكثروا من الأعمال الصالحة، واستعدوا للدار الآخرة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

معاشر المسلمين: ثبت عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَعمَارُ أُمَّتي مَا بَينَ السِّتِّينَ إِلى السَّبعِينَ، وَأَقلُّهُم مَن يَجُوزُ ذَلِكَ) وقال: (معترك المنايا (أي موضع حلول الأجل)، ما بين الستين إلى السبعين) وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا بَلَغَ العبد من أُمَّتِي ستين سنةً، فقد أعذرَ اللهُ إليه في العُمُرِ) والإعذار: إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبقَ له اعتذار، يُقال: أعذر إليه – إذا بلَّغه أقصى الغاية في العذر، ومكَّنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكُّنه منها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية.. ولله در الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال:

إِذا عاشَ الفَتى ستينَ عاماً

                                    فَنِصفُ العُمرِ تَمحَقُهُ اللَيالي

وَنِصفُ النِصفِ يَذهَبُ لَيسَ يَدري

                                          لِغَفلَتِهِ يَميناً مِن شِمالِ

وَثُلثُ النِصفِ آمالٌ وَحِرصٌ

                                       وَشُغلٌ بِالمَكاسِبِ وَالعيالِ

وَباقي العُمرِ أَسقامٌ وَشَيبٌ

                                          وَهَمٌّ بِاِرتِحالٍ وَاِنتِقالِ

فَحُبُّ المَرءِ طولَ العُمرِ جَهلٌ

                                     وَقِسمَتَهُ عَلى هَذا المِثالِ

أيها المؤمنون: ما مضى من العمر وإن طالت أوقاته، فقد ذهبت لذَّاته، وبقيت تبعاته، وكأنه لم يكن إذا جاء الموت وميقاته؛ يقول الله عز وجل: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) تلا بعض السلف الصالح هذه الآيات وبكى، وقال: (إذا جاء الموت لم يُغْنِ عن المرء ما كان فيه من اللذة والنعيم)

  • يا أبناء العشرين، جدوا واجتهدوا، كم مات من أقرانكم وأصحابكم وتخلَّفتم؟ • ويا أبناء الثلاثين، أصبتم بالشباب على قُربٍ من العهد فما تأسفتم. • يا أبناء الأربعين، ذهب الصِّبا وأنتم على اللهو قد عكفتم. • يا أبناء الخمسين، أتاكم النذير، أنتم زرع قد دنا حصاده، تنصفتم المئة وما أنصفتم. • يا أبناء الستين، هلمُّوا إلى الحساب، أنتم على معتركِ المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون؟ لقد أسرفتم! •يا أبناء السبعين، ماذا قدَّمتم وما أخَّرتم؟ •يا أبناء الثمانين، لا عُذْرَ لكم إن فرطتم؟

 أيها الأخوة والأخوات في الله: إن المتأمل في هذا الأمر، ليجد فرقاً شاسعاً بين أعمار امة محمد صلى الله عليه وسلم وبين أعمار من سبقها من الأمم.. واللهُ سبحانه وتعالى قد جعل لِكُلِّ إِنسَانٍ سِنِينَ مَعدُودَةً.. وَقضى لَهُ عُمُراً مُحَدَّداً. وصدق الله العظيم حيث يقول: (اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَالَّتِي لم تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيهَا المَوتَ وَيُرسِلُ الأُخرَى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وفي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: اللّهُمَّ أَمتِعْني بِزَوجِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَأبي أَبي سُفيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (قد سَأَلتِ اللهَ لآجَالٍ مَضرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعدُودَةٍ، وَأَرزَاقٍ مَقسُومَةٍ، لَن يُعَجَّلَ شَيءٌ مِنهَا قَبلَ أَجَلِهِ وَلا يُؤَخَّرُ، وَلَو كُنتِ سَأَلتِ اللهَ أَن يُعِيذَكِ مِنَ النَّارِ وَعَذَابِ القَبرِ كَانَ خَيراً وَأَفضَلَ)..

 أيها الأخوة والأخوات في الله: ومع هذه النصوص الكريمة الا أنه وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العُمُرَ يُزَادُ فِيهِ بِبَعضِ الأَعمَالِ الصالحة، ومن ذلك ما صَحَّ عَنهُ صلى الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: (لا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ في العُمُرِ إِلاَّ البِرُّ).وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ في مَفهُومِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِلاَّ أَنَّ ممَّا لا شَكَّ فِيهِ مِصدَاقًاً لِلأَدِلَّةِ أَنَّ العُمُرَ يُزَادُ فِيهِ بِأَعمَالٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ البَرَكَة في العمر لَكَفَى بِهِا مَكسَباً.

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها

                                      فالذكر للإنسان عمر ثانِ

عباد الله: توفي نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاث وستين سنة، وهو عمر ليس بالطويل، لكنّه أحدث فيه أعظم تغيير في حياة البشريّة، إذ لم يلتحق بربّه، إلاّ وقد أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأرسى دعائم التوحيد، وزلزل صروح الشرك، وأزال الخرافة، ومكّن للعلم والمعرفة، وحرر البشر من جور الأديان، وأذاقهم حلاوة عدل الإسلام، فانساب النور الّذي جاء به من جزيرة العرب، لتلامس أشعّته أقطار المعمورة.. هذا هو العمر المبارك الّذي أشار إليه الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري رحمه الله في حكمته فقال:(رُبَّ عُمُرٍ اتَّسَعَتْ آمادُهُ وَقَلَّتْ أمْدادُهُ، وَرُبَّ عُمُرٍ قَليلَةٌ آمادُهُ كَثيرَةٌ أمْدادُهُ. فمَنْ بُورِكَ لَهُ في عُمُرِهِ أدْرَكَ في يَسيرٍ مِنَ الزَّمَنِ مِنْ مِنَنِ اللهِ تَعالى ما لا يَدْخُلُ تَحْتَ دَوائِرِ العِبارَةِ وَلا تَلْحَقُهُ الإشارَةِ) وقد اقتضت حكمة الخالق عزّ وجلّ أن يكون هذا سنّة في خلقه، فتجد من يطول عمره ويسوء عمله، ومن يعمر ثمانين حولاً وأكثر ثمّ يموت من غير أن يترك خلفه أيّ أثر طيّب فكأنّه لم يولد ولم يعش فوق الأرض، وتجد في المقابل أفذاذاً اصطفاهم الله بحكمته، عاشوا مدداً قصيرةً لكنّهم ملؤوها خيراً وعطاءً وبذلاً وكأنّ يوم أحدهم بألف يوم أو يزيد، وكأنّ سني حياتهم لم يقتطع منها النوم شيئاً ولم تخالجها راحة أو وعكة صحّيّة تحول دون العمل والعطاء

أيها المسلمون والمسلمات: هناك أعمال وأفعال تطيل الأعمار بإذن الله تعالى، مَن فعلها تَضَاعَفَت له الحَسَنَاتُ، وحلت بساحته البَرَكَات، ومن رحمة الله عز وجل بنا، أن جَعَلَها أعمالاً كَثِيرَةً مُتَنَوِّعَةً، لِيَأخُذَ كُلُّ امرِئٍ مِنهَا بما يُنَاسِبُ حَالَهُ وقدرته..

أولاً: من أعظم الأعمال التي بسببها تطول الأعمار، هي صلة الرحم، كما ورد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ) … وأدني درجة في صلة الرحم هي الصلة بالسلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلاَمِ) وَمَعْنَاهُ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ.  وَيقول: عليه الصلاة والسلام (مَن أَحَبَّ أَن يُبسَطَ لَهُ في رِزقِهِ، وَأَن يُنسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) وَيقول صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَةُ السِّرِّ تُطفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ في العُمُرِ، وَفِعلُ المَعرُوفِ يَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ). ثانياً: حسن الخلق والإحسان إلى الجار من الأعمال الجالبة لبركة الأعمار، فعن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صِلَةَ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، يَعْمُرَانِ الدِّيَار، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَار) وبالخلق الحسن ينال العبد ثواب من صام النهار، وقام الليل، لقوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ الْقَائِمِ).

ثالثاً: من الأعمال التي بسببها تبارك الأعمار، ذكر الله عز وجل فهو بحر عظيم من الحسنات.. ومن أنواعه التسبيح: فعَن سَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَيَعجزُ أَحَدُكُم أَن يَكسِبَ كُلَّ يَومٍ أَلفَ حَسَنَةٍ؟) فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِن جُلَسَائِهِ: كَيفَ يَكسِبُ أَحَدُنَا أَلفَ حَسَنَةٍ؟! قَالَ: (يُسَبِّحُ مائَةَ تَسبِيحَةٍ، فَيُكتَبُ لَهُ أَلفُ حَسَنَةٍ، أَو يُحَطُّ عَنهُ أَلفُ خَطِيئَةٍ). وَقَالَ: عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (مَن سَبَّحَ اللهَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًاً وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاثًاً وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثًاً وَثَلاثِينَ، فَتِلكَ تِسعٌ وَتُسعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المائَةِ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَت خَطَايَاهُ وَإِن كَانَت مِثلَ زَبَدِ البَحرِ). وعن جُوَيرِيَةَ زوج النبي رَضِيَ اللهُ عَنهَا قالت: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِن عِندِهَا ثم رَجَعَ بَعدَ أَن أَضحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: (مَا زِلتِ عَلَى الحَالِ الَّتي فَارَقتُكِ عَلَيهَا؟) قَالَت: نَعَمْ، قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَقد قُلتُ بَعدَكِ أَربَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَو وُزِنَت بما قُلتِ مُنذُ اليَومِ لَوَزَنَتهُنَّ: سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ، عَدَدَ خَلقِهِ وَرِضَاءَ نَفسِهِ وَزِنَةَ عَرشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)  أي أنها لو قالت هذه الكلمات ثلاث مرات لكان ثوابها أكثر من ثواب ما أجهدت نفسها بالساعات الطوال في ذكر الله تعالى.

ومن أنواع الذكر الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً). وكذلك من أنواع الذكر الجالبة لمزيد من الأجر: التهليل وهو قول لا إله إلا الله، لقوله عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير في يَومٍ مائَةَ مَرَّةٍ كَانَت لَهُ عَدلَ عَشرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَت عَنهُ مائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَت لَهُ حِرزاً مِنَ الشَّيطَانِ يَومَهُ ذَلِكَ حَتى يُمسِيَ، وَلم يَأتِ أَحَدٌ بِأَفضَلَ ممَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكثَرَ مِنهُ).

رابعاً: مما يزاد ويبارك بسببه في أعمارنا القصيرة، الإكثار من الصلاة في الحرمين الشريفين.. فالصلاة الواحدة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في أي مسجد آخر بمائة ألف صلاة، كما ورد في حديث جَابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَصَلاَةٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ… وصلاة النافلة في البيت أعظم أجراً من المسجد، كما في صحيح الجامع قال صلى الله عليه وسلم: (صَلاَةُ الرَّجُلِ تَطَوُّعاً حَيْثُ لاَ يَرَاهُ النَّاسُ، تَعْدِلُ صَلاَتَهُ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ خَمْساً وَعِشْرِينَ ) وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (مَن صَلَّى في يَومٍ وَلَيلَةٍ ثِنتَي عَشرَةَ رَكعَةً بُنيَ لَهُ بَيتٌ في الجَنَّةِ: أَربَعًا قَبلَ الظُّهرِ، وَرَكعَتَينِ بَعدَهَا، وَرَكعَتَينِ بَعدَ المَغرِبِ وَرَكعَتَين بَعدَ العِشَاءِ، وَرَكعَتَينِ قَبلَ صَلاةِ الفجر)… خامساً: حضور المساجد للعلم أو التعليم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْراً أَوْ يُعَلِّمَهُ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامّاً حَجَّتُهُ).

سادساً: مما يطيل الأعمار ويزيد بسببها أجر المؤمن أن يحتسب الأجر والثواب في كل قول وعمل يقوم به ولو كان ذلك من العادات مثل نومه وأكله وشربه وعمله ونفقته على أهله، يقول صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: (إنك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ) نسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، وان يطيل في أعمارنا على أعمال صالحة يرضى بها عنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الفضل المبين، ونشهد أن لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين، صَلَّى الله وسلم وبارك عليه عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ والتابعين لهم بإحسان.

أمَّا بَعْد: فيا أيها المؤمنون والمؤمنات: اتقوا الله تعالى واعلموا   أن من عظيم نعم الله على عباده المؤمنين، أن هيأ لهم أبواباً من الخير والبر والإحسان عديدة، يقوم بها المؤمن في حياته، ويجري ثوابها عليه بعد مماته، فأهل القبور في قبورهم مرتهنون، وعن الأعمال منقطعون، وعلى ما قدموا في حياتهم محاسبون ومجزيون، بينما هذا المؤمن في قبره الحسنات عليه متوالية، والأجور والأفضال عليه متتالية، ينتقل من دار العمل ولا ينقطع عنه الثواب والأجر، تزداد درجاته وتتنامى حسناته وتتضاعف أجوره وهو في قبره، فما أكرمها من حال! وما أجمله وما أطيبه من مآل! أيها المؤمنون: إن من الناس من يموت وتبقى حسناته بعده تجري عليه في قبره بما قدمه في حياته من أعمال خير وبر وإحسان، والله جل وعلا بين في كتابه أنه لا يضيع أجر المحسنين، يقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يعني نكتب آثارهم التي تركوها في الدنيا، فيكتب الله ما قدموا في حياتهم من صلاة وصدقة وصيام وذكر وأعمال بر وإحسان.

أيها المسلمون: لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أبواب يجري للعبد ثوابها وأجرها بعد موته إذا عملها في حياته، ربما لا يبذل فيها المؤمن مالاً كثيراً ولا جهداً كثيراً ومع ذلك يجري له ثوابها ويدوم أجرها ويبقى أثرها بعد موته في قبره إلى أن يلقى الله تعالى. ولنتأمل ملياً -عباد الله- هذه الأعمال ولنحرص على أن يكون لنا منها حظ ونصيب ما دمنا في دار الإمهال، ولنبادر إليها أشد المبادرة قبل أن تنقضي الأعمار وتنصرم الآجال، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ ممَّا يَلحَقُ المُؤمِنَ مِن عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعدَ مَوتِهِ: عِلماً نَشَرَهُ، وَوَلَداً صَالِحًا تَرَكهُ، وَمُصحَفًا وَرَّثَهُ، أَو مَسجِداً بَنَاهُ، أَو بَيتًا لابنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَو نَهَرًا أَجرَاهُ، أَو صَدَقَةً أَخرَجَهَا مِن مَالِهِ في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلحَقُهُ مِن بَعدِ مَوتِهِ).وفي رواية: (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْماً، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)

عباد الله: كما أن من الأَعمَال الَّتي يبارك الله بها في الأعمار.. ولا يَنقَطِعُ ثَوَابُهَا بِانتِهَاءِ العُمُرِ وَانقِطَاعِ العَمَلِ: هم الأَبنَاءُ الصَّالِحُونَ، وَالعِلمُ النَّافِعُ، وَبِنَاءُ المَسَاجِدِ، وَتَوقِيفُ المَنَافِعِ العَامَّةِ، وَالصَّدَقَاتُ الجَارِيَةُ، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَو عِلمٌ يُنتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٌ صَالحٌ يَدعُو لَهُ)

فَاحرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى مَا تَحُلُّ بِهِ البَرَكَةُ في أَوقَاتِكُم وَتُطَالُ بِهِ أَعمَارُكُم، فَإِنَّ بَينَ أَيدِيكُم ولله الحمد في هذه البلاد المباركة، مِنَ المُؤَسَّسَاتِ والجمعيات الخَيرِيَّةِ. وجَمعِيَّات البِرِّ والإحسان. وجَمعِيَّات تَّحفِيظِ القرآن، وجمعية دعوة غير المسلمين إلى الإسلام (أكتشف الإسلام) وغيرها من الأوقاف الدعوية والخيرية. فَلا تَنسَوهَا من دعمكم، ادعَمُوهَا بزكاتكم وصدقاتكم وقدموا لأنفسكم، فإن بين أيديكم أسر فقيرة، وأيتام وأرامل، ومَسَاجِدُ تُعمَرُ، وَأَوقَافٌ تُنشَأُ، َسَاهِمُوا ولو بالقليل وَاضرِبُوا لأَنفُسِكُم في كُلِّ مَجَالٍ مِن مَجَالاتِ البِرِّ بِسَهمٍ.. وَاحرِصُوا رحمكم الله: عَلَى أعمال صالحة تَزيدون بِهِا حَسَنَاتكُم.. وتفكروا جيداً في قول من أغناكم سبحانه وتعالى (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيراً وَأَعظَمَ أَجراً)، وفي قوله سبحانه: (وَمَن يَبخَلْ فَإِنَّمَا يَبخَلُ عَن نَفسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِلْ قَوماً غَيرَكُم ثم لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم) .

اللهمّ إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحبّ الفقراء والمساكين والأيتام وأن تتوب علينا وتغفر لنا وترحمنا إنك سميع الدعاء.

اللهم إنا نسألك زيادة في الإيمان، وبركة في العمر، وصحة في الجسد، وسعة في الرزق وتوبة قبل الموت، وشهادة عند الموت، ومغفرة بعد الموت، وعفواً عند الحساب واماناً من العذاب ونصيبا من الجنة. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.. اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلاء والرِّبا والزِّنا والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ عن بلدِنا البَحرينِ خاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم أغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم أغفر لسماحة العلامة الشيخ صالح اللحيدان،

اللهم أغفر له وارحمه، وألحقه بالأنبياء والعلماء العاملين، والصالحين والصديقين،

وأسكنه في الفردوس الأعلى من الجنة، وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

       خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين